التنمية المجتمعية: ماذا فقدت في مسيرتها؟

تُعد التنمية المجتمعية من الركائز الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة، فهي تتناول تحسين جودة الحياة للأفراد والمجتمعات بشكل شامل، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية. على مر العقود الماضية، شهدت التنمية المجتمعية تطورات متعددة في المفاهيم والأهداف والأدوات التي تستخدم لتحقيقها. إلا أنه مع مرور الزمن، بدأت تظهر فجوات وملاحظات جوهرية حول ما فقدته التنمية المجتمعية في مسيرتها، خاصة فيما يتعلق بمفاهيمها الأساسية وأهدافها النهائية، وحتى في طرق التنفيذ والنتائج الملموسة التي حققتها.

في هذا المقال الطويل، سنتناول بشكل موسع الجوانب التي فقدتها التنمية المجتمعية، مسلطين الضوء على التحولات التي طرأت على هذا المجال، ومدى تأثيرها على تحقيق التنمية الحقيقية والفعالة التي تلبي احتياجات المجتمعات وتحقق رفاهيتها بشكل مستدام.

مفهوم التنمية المجتمعية وأهميتها

التنمية المجتمعية هي عملية متكاملة تهدف إلى تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية للمجتمعات. تتمحور هذه العملية حول تمكين الأفراد من المشاركة الفعالة في بناء مجتمعاتهم، وتعزيز قدراتهم على تحقيق التنمية الذاتية. تشمل التنمية المجتمعية تحسين التعليم، الصحة، الإسكان، البنية التحتية، فرص العمل، والبيئة الاجتماعية.

أهمية التنمية المجتمعية تنبع من كونها توجه الموارد والجهود نحو الفئات والمناطق المهمشة والفقيرة، بهدف تقليل الفوارق الاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي بناء مجتمع أكثر توازناً واستقراراً. في المراحل الأولى من نشأتها، كانت التنمية المجتمعية تركز على مشاركة المجتمع بشكل مباشر في تحديد مشكلاته وإيجاد الحلول، مما عزز شعور الانتماء والملكية الجماعية للنتائج.

التحولات التي شهدتها التنمية المجتمعية

مع تقدم الزمن، طرأت العديد من التحولات على مفهوم التنمية المجتمعية وأدوات تطبيقها، حيث تأثرت بعدة عوامل داخلية وخارجية، منها:

1. التحول من التنمية القاعدية إلى التنمية الموجهة من الجهات الخارجية

في بداياتها، كانت التنمية المجتمعية تعتمد على المبادرات المحلية القاعدية التي تنبع من احتياجات المجتمع نفسه، حيث يشارك الأفراد في وضع الخطط وتنفيذها. لكن مع تدخل المنظمات الدولية والجهات المانحة، تحولت التنمية تدريجياً إلى مشاريع موجهة من خارج المجتمع، ترتكز على أجندات وتوجهات تلك الجهات، الأمر الذي أدى إلى تراجع دور المجتمع المحلي في صناعة القرارات.

2. الاعتماد المتزايد على التمويل الخارجي والشروط المرتبطة به

شهدت التنمية المجتمعية ازدياداً ملحوظاً في التمويل من مصادر خارجية، سواء كانت حكومية أو منظمات دولية. هذه الأموال عادة ما تأتي مصحوبة بشروط ومعايير محددة، ما قد يحد من قدرة المجتمعات على تحديد أولوياتها بشكل مستقل، ويجعل التنمية أداة لتحقيق أهداف الجهات الممولة بدلاً من تحقيق تطلعات المجتمع الحقيقي.

3. التركيز على المشاريع التقنية والتنموية دون الاهتمام بالتغيير الاجتماعي العميق

مع تطور الأدوات والآليات، أصبحت التنمية المجتمعية تركز بشكل كبير على تنفيذ مشاريع ملموسة مثل بناء البنية التحتية، وتحسين الخدمات، بينما تراجع التركيز على الجوانب الاجتماعية والثقافية التي تشكل أساس التغيير المستدام. هذا أدى إلى نتائج تنموية مؤقتة في بعض الأحيان، دون إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع وأسس التفاعل الاجتماعي.

ما الذي فقدته التنمية المجتمعية في مسيرتها؟

من خلال التحولات السابقة، يمكن تحديد عدة نقاط رئيسية فقدتها التنمية المجتمعية، وأثرت على قدرتها في تحقيق أهدافها:

1. فقدان روح المشاركة المجتمعية الحقيقية

كانت المشاركة المجتمعية العمود الفقري لأي عملية تنموية ناجحة. في الماضي، كان المجتمع شريكاً فاعلاً في تحديد الاحتياجات ووضع الخطط، لكن مع تزايد دور الجهات الخارجية والمنظمات، أصبحت المجتمعات مجرد متلقين للقرارات والخطط الجاهزة، مما أدى إلى ضعف الشعور بالمسؤولية والالتزام.

2. تراجع التركيز على العدالة الاجتماعية والمساواة

كانت التنمية المجتمعية تسعى بشكل واضح إلى تقليل الفوارق والتمييز الاجتماعي. لكن في كثير من الحالات، تحولت البرامج إلى مشاريع اقتصادية وتقنية فقط، مما جعل بعض الفئات أكثر استفادة من غيرها، وبالتالي زيادة الفجوات الاجتماعية بدلاً من تضييقها.

3. تفكك النسيج الاجتماعي والتجاهل للعوامل الثقافية

أدى التركيز على الجوانب الاقتصادية والتنموية المادية إلى إهمال الأبعاد الثقافية والاجتماعية التي تمثل روح المجتمع. هذا التجاهل أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وزيادة الاحتكاكات الداخلية بسبب غياب الحوارات الثقافية والتفاهم المجتمعي العميق.

4. ضعف الاستدامة البيئية والاجتماعية

الاهتمام بالمشاريع التنموية دون تخطيط مستدام أدى إلى استنزاف الموارد الطبيعية، وتدهور البيئة، ما يؤثر بدوره على جودة الحياة والرفاهية على المدى البعيد. كما أن ضعف الاستراتيجيات التنموية التي تعتمد على المشاركة المجتمعية جعل النتائج غير دائمة وغير قابلة للاستمرار.

5. التحول إلى تنمية «عبر المشاريع» وليس تنمية «شاملة»

أصبحت التنمية تُقاس بعدد المشاريع التي يتم تنفيذها أو الأموال المصروفة، بدلاً من تقييمها على أساس تأثيرها الحقيقي على حياة الأفراد والمجتمع. هذا المنهج أدخل مفهوم “مشاريع التنمية” كهدف بحد ذاته، بدلاً من رؤية التنمية كعملية مستمرة وشاملة.

أثر هذه الخسائر على واقع التنمية المجتمعية

الأثر الناتج عن فقدان هذه الجوانب في التنمية المجتمعية كان واضحاً في العديد من البلدان والمجتمعات، خاصة في الدول النامية. من أبرز هذه الآثار:

• تراجع ثقة المجتمع في المؤسسات التنموية، ما أدى إلى ضعف التعاون والمشاركة الشعبية.

• زيادة معدلات الفقر والبطالة في بعض المناطق رغم وجود مشاريع تنموية متعددة.

• انتشار الشعور بالعزلة والهامشية لدى بعض الفئات الاجتماعية، مما يزيد من التوترات الاجتماعية والصراعات.

• تدهور الموارد البيئية، مثل تلوث المياه والتربة، ما يؤثر سلباً على صحة السكان.

إعادة النظر في مسار التنمية المجتمعية: نحو استعادة المفقود

لمعالجة ما فقدته التنمية المجتمعية، يجب تبني مقاربات جديدة تستند إلى تجارب الماضي الناجحة، وتبتعد عن النقائص التي رافقت مسيرتها الحديثة. من أبرز هذه المقترحات:

1. تعزيز المشاركة المجتمعية الحقيقية والفاعلة

يجب إعادة بناء جسور الثقة بين المجتمعات والمؤسسات التنموية، والعمل على إشراك الأفراد والمجتمع في كل مراحل التنمية من التخطيط وحتى التقييم، مع التأكيد على أهمية التمثيل العادل لكل الفئات الاجتماعية.

2. التركيز على العدالة الاجتماعية وتقليل الفوارق

يجب أن تكون العدالة الاجتماعية محوراً رئيسياً في أي مشروع تنموي، مع استهداف الفئات الأشد حاجة وضمان توزيع عادل للموارد والفرص.

3. دمج البعد الثقافي والاجتماعي في الخطط التنموية

التنمية لا تقتصر على البنية التحتية أو الاقتصاد فقط، بل يجب أن تأخذ في الاعتبار القيم والعادات والتقاليد الثقافية للمجتمع، لتعزيز التماسك الاجتماعي والاستقرار.

4. تبني استراتيجيات التنمية المستدامة

وضع خطط طويلة الأمد تراعي البيئة وتدعم الموارد الطبيعية، وتضمن استمرارية الفوائد التنموية للأجيال القادمة، دون إلحاق الضرر بالبيئة أو المجتمع.

5. التحول من مشاريع مؤقتة إلى تنمية شاملة مستمرة

يجب النظر إلى التنمية كعملية مستمرة وشاملة، تراعي جميع الأبعاد الحياتية، وتقوم على تقييم مستمر للنتائج وتأثيرها الحقيقي على جودة حياة السكان.

دور الحكومات والمنظمات في استعادة مسار التنمية المجتمعية

تتحمل الحكومات والمنظمات الدولية دوراً محورياً في إعادة صياغة مفهوم التنمية المجتمعية، وضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة. يتطلب ذلك:

• توفير الأطر القانونية والمؤسساتية التي تعزز مشاركة المجتمع المدني.

• تقديم الدعم المالي والفني المشروط بالمشاركة الفعلية والمستدامة للمجتمع.

• بناء القدرات المحلية وتمكين المجتمعات من اتخاذ قراراتها بنفسها.

• تنسيق الجهود بين مختلف الجهات الفاعلة لضمان تكامل الخطط والبرامج التنموية.

خاتمة

التنمية المجتمعية ليست مجرد شعار أو مشروع عابر، بل هي عملية مستمرة تحتاج إلى تجديد وتطوير دائمين لضمان تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة. فقدان التنمية المجتمعية لروح المشاركة الحقيقية، وللعدالة الاجتماعية، وللأبعاد الثقافية والبيئية، كان من أبرز التحديات التي عطلت قدرتها على تحقيق أهدافها. إن استعادة هذه القيم والمبادئ، والتوجه نحو تنمية شاملة مستدامة، هي السبيل الوحيد لبناء مجتمعات قادرة على مواجهة تحديات العصر وتحقيق رفاهية حقيقية لأفرادها.